زحام
- -
في مكان غريب لا تتطابق صورته مع أي مكان كان قد رآه طيلة حياته .
فجأة وجد نفسه.
هو لا يزال يذكر أنه كان في بيته .وسط أهله وأصدقائه وكل من يحب .يحتفل بعيد ميلاده الخامس والأربعون .
كان هناك أصوات عالية . ضحكات وغناء وصوت موسيقى .يعج بها المكان .فأحس بقليل من التعب .فانسحب بهدوء ليستريح على مقعد في إحدى زوايا الصالة الواسعة .
ولكن ها هو ينتبه .انه ليس بنفس المكان ولا نفس الزمان .ولا الناس ناسه .
صحيح هو كان وسط زحام الأهل والأحباب .
ولكن الزحام هنا أكبر من أن يوصف بزحام. أمواج وأمواج بشرية متلاطمة لا يحدها مكان .
بشر من كل الأجناس .من كل الألوان.ومن كل الأعمار .نساء رجال أطفال .كلهم حفاة عراة .منتظمين بصفوف تبدو بلا نهاية.
أرعبه أن شاهد أن بين هذه الصفوف بعض بشر منتظمين وهم غير مكتملي الأجسام .
فبعضهم فاقدي الرأس .أو فاقدي بعض أعضاء الجسم .والدماء لازالت تغطيهم .وغيرهم ما يبدو أنهم جثث محروقة .ولكنهم منتظمين في الصفوف أيضا .
ولكن هان رعبه عليه عندما قارن الرعب البادي على هؤلاء البشر .وكأنهم جاءوا محملين برعب داخل ذواتهم حملوه من زمان ومكان بعيد .زاده رعبا وهولا ما هم فيه الآن .
عقد لسانه دهشة عندما لاح له بين الصفوف .نوع بشر مختلفي الشكل قليلا عن الإنسان العادي .هو يعرفهم كان قد قرأ عنهم .أنهم الإنسان الأول بأشكالهم القريبة من أشكال القردة .
تمعن أكثر بهذا البحر المتلاطم من البشر .
لاحظ هناك بين الأقدام تزحف كثبان صغيرة من الرماد .محاولة استمرارها الانتظام بالصفوف .
فلم يزدد تعجبه بعد كل ما شاهد .وارجع نظره للأعلى .
كان اغلب البشر أمام ناظره يسيرون فرادا .ولكن هناك البعض ليسوا بالفرادا بل ممسكين بآخرين .لا يفارقونهم مهما كان من تدافع من الزحام حولهم .
فكر مع نفسه بما أنه الوحيد الغير منتظم معهم .وهو الوحيد المستغرب فيما يبدوا من كل ما حوله .إذا لابد أن يكون هو لازال يحمل بعض الوعي .
ليركز عله يعرف ما هو فيه .أو يحاول أن يبحث عن غير هؤلاء فقد يجد من يرشده .أو حتى فقط يفهمه ما يجري حوله .
أدار رأسه بعيدا عن هذه الجموع عله يجد مسئول ما أو حتى مشرف على خط سير هؤلاء.
فلاح له بعيدا عن الصفوف هذه .أشخاص ليسوا على هيئة البشر .
هم أشخاص وليس بأشخاص .فهم لا يشبهون ما يعرف وما شاهد في حياته أبدا .
ولكنه يراهم ويميزهم عن هؤلاء الجموع .
خاف بادئ الأمر أن يقترب منهم .ولكنه تماسك .وسال نفسه .أرعب بعد كل هذا الرعب ؟
توجه لأحدهم مسلما وسائلا.
- انا تائه .ولا أظن أني من هؤلاء .ولست أيضا منكم .فهلا تعطفت وأخبرتني أين أنا .وماذا يجري هنا .
أجابه الشخص بدون كلام .بشيء يشبه الإيحاء .ففهمه .وعرف انه جواب له .
- لا يحق لك أن تسال .انضم للصفوف وأنت ساكت .
- لا اعتقد إنني سأنضم لهذه الصفوف .لأنني لا أزال في وعيي .واستطيع التمييز.
وإلا كنت داخل هذه الصفوف المرعوبة .أجاب صاحبنا معترضا .
- قد يكون معك حق .فأنت لا تزال لست منهم.ولكنك لن تتأخر في الانضمام إليهم .فماذا تريد أن تعرف ؟
- قد سألتك.وأعيد لو سمحت .أين نحن؟من هؤلاء ؟من انتم .؟أين يتجه الكل ؟
- أنت في الآخرة .وهذا هو يوم الحشر العظيم .يوم الحساب .وهذه البلايين من البشر متجهه إلى طريق العدالة حيث الثواب والعقاب .
- عذرا سمعت عن أهوال ورعب وشدائد يوم القيامة .وانه يوم ينسى فيه الأخ أخيه .وتهمل الأم رضيعها .وهذا واضح على محياهم .وإن كان البعض بدون رؤوس .ولكنني لازلت أرى منهم من لازال ممسك بأشخاص آخرين ولا يفارقونهم برغم كل هذه الأهوال ؟
أجابه المشرف .
- من ترى من فاقدي بعض أعضاء أجسامهم .هم ممن قتل . ولم يمت موت طبيعي .أما هؤلاء المتماسكين .فهم كل يمسك بمن كان غريمه بالدنيا .أو ارتكب ذنبا بحقه .ليحاسبا معا .
- هل تعني القاتل والمقتول .السارق والمسروق .والخائن والمخان .
- هو ذاك .
- فماذا عن كثبان الرمل الصغيرة الزاحفة تحت الأقدام .وهؤلاء البشر الذين لا يشبهون تماما البشر بصورهم الحالية .
- النوعيين الذين تسال عنهم .هم أيضا بشر .الكثبان هم بقايا بشر أحرقت أجسادها بعد الموت .بسبب معتقدهم .والآخرون هم صورة أول خلق للبشر .
- ولكنني اعتقد أن النوعيين لا يؤمنون بالآخرة بعد الحياة .
- ليس بما يعتقدون .الجميع اخذ فرصة الحياة .
والآن ارجع لمكانك إلى أن يأتي دورك .
رجع الرجل واقفا بمكانه الأول خارج الصفوف . مراقبا حائرا فيما عليه أن يفعله .لكن فضوله لم يدعه ساكتا طويلا .
فاتجه لمجاميع في الصفوف ظاهر عليهم آثار قتل وتقطيع ودماء تغطي أجسادهم .وكل منهم ممسك بآخر .أو مجموع منهم ممسكين بواحد .فسألهم.؟
- لم هذه الدماء تغطيكم ؟ومن انتم ؟
أجاب احدهم .
- نحن الشهداء .وفي تعاليم ديننا لا يغسل الشهيد حتى يلاقي ربه بدمه .
- ولكنني أراكم ممسكين بمن هم أيضا مدمي الأجساد .وعلمت أنكم تمسكون بغرمائكم .فمن منكم الغادر والمغدور .أو من منكم الشهيد ؟.
- نحن الاثنان ندعي الشهادة .
- كيف سيكون القاتل والمقتول شهيد ؟
- نحن قتلنا بعضنا في حرب بين بلدينا .وبلدينا مؤمنين بنفس الدين .وفيه المدافع عن الوطن والعرض شهيد .
- ولكن حسب ما أعرف أن إحدى الفرقتين ستسمى الفرقة الباغية .ويحق للمؤمن قتلهم إذن ولا يحتسبوا شهداء .؟
- أولا .كل فرقة بنظر الفرقة الثانية هي الباغية .ثانيا إن كان هناك باغي فهو المسئول الذي أعلن الحرب وأشعل الفتنة .وما نحن إلا بشرا جندنا ودفعنا لحرب لم يكن لنا قرار فيها ولا رأي .فلم نقتل في الدنيا ونعاقب بالآخرة ؟
احتار في الرد على منطق الرجل .وتركه متجه لمن بعده .فأجابه رجل قبل أن يسأله .كأنه منتظر إنصاف لقضيته .
- نحن مجموعة بشر وهذا المجرم فجر نفسه فينا وقتلنا شبابا وشيوخا .ويدعي أن دينه السماوي أمره بقتل من لا يتبعون ملته ودينه .نحن حقيقي لا نتبع ملته .ولكننا متمسكين بملتنا التي هي أيضا سماوية .بل وصلتنا الرسالة قبل أن تصل لقومه .ونحن مؤمنين بما وصلنا .فكيف نغير ما نعتقد بنذير منهم .فإن فعلنا فإن هذا يعني أن نذيرنا لم يكن يحمل كل الحق إلينا .لذلك نحن اليوم نطالب بالعدالة .
الرجل بدا يتوه أكثر ولا يدري بما يجيب هؤلاء الناس .فتركهم واتجه لغيرهم .
توجه بالسؤال منتظرا جوابا أكثر تعقيدا بعد ما كان من أجوبة سابقة .
- يبدوا عليكم من بلاد مختلفة لان سحنكم مختلفة فما هي قضيتكم .؟
- نعم نحن بشر من بلاد مختلفة الملل .وبالرغم من أن أدياننا كلها سماوية .إلا أننا نتقاتل فيمن اعتبرته السماء الشعب المفضل .والأحق بالوجود على بقعة ارض واحدة مقدسة عند كلينا .وها نحن هنا سنطالب بالعدالة .حسب ما جاء في ما لدى كلينا من كتب مقدسة نزلت إلينا
.
قرر ألا يتعاطف مع أي أحد بعد كل ما سمع من وجهات نظر .وتابع لغيرهم .
وقف بجانب مجاميع فرادا غير ممسكة ببعضها .لكن جميعهم يبدوا عليهم الهزال والضعف .جلودهم تكاد أن تكون ملتصقة بعظامهم .وبشرتهم داكنة اللون .هو يعرف من أي أرض هم .فلقد سمع في حياته كثيرا عن ظروف حياتهم القاسية .ولكن كان عليه أن يسمع ما يقولون .فسأل .
- ما هي قضيتكم أنتم ؟
- نحن من قرى أفريقية .كف المطر لسنيين عن السقوط على أراضينا .فجفت الأرض وتشققت عطشا .وانعدم لدينا الغذاء وانتشر فينا الوباء .فمحينا عن الوجود جوعا ومرضا .
والآن نتمنى أن يعفى عن ذنوبنا جميعا .لأننا عوقبا في الدنيا قبل الآخرة .
- الجوع كافر .قرى كاملة تمحى عن الوجود بسبب ظروف طبيعية .فأي حياة وأي ألم عشتموه يستحق الحساب .هذا ما فكر به وهو ينسحب إلى مجموعة جديدة .
صار أمامه منظرا مثيرا للشفقة والضحك بنفس الوقت .
رجل سمين بكرش كبير يتقدمه .ممسك بخمسة رجال لم يبقى من أجسادهم إلا الجلود على العظم .
فتقدم من الثخين متسائلا .
- وهل يستطيع هؤلاء الضعاف إيذائك لتأتي هنا ممسكا بهم ؟
- نعم لقد اعتدوا على حقي .
- كيف ذلك ؟
- كانوا خمسة من العمال يعملون في حقلي بأجر .ومع ذلك سرقوني .
رد الرجال بصوت واحد .
- تملك الأرض التي هي أرض الله .لا يعمل بها .ونحن من نكد ونتعب بها .وعند جني المحصول .لا يعطينا ما يسد جوعنا وجوع أطفالنا .وهو يكنز الأموال من تعبنا وجهدنا .فلم يكن أمامنا إلا أن نأخذ حقنا ولقمة أطفالنا منه بالقوة كي لا نهلك .وها هو الآن يمسكنا ليطالب بالعدالة .أليس العدالة نحن أحق بها منه هنا .
- كل من أراه يفكر أن الحق معه .هكذا رد عليهم ذاهبا لغيرهم .
مجاميع من الرجال كل مجموعة تحيط بامرأة واحدة فقط .وكل امرأة منهن مفشوخة الرأس دامية .الدماء تغطي ملامح الوجه والجسم منهن.
- مالكم أيها الرجال مجتمعين كل منكم حول امرأة واحدة لم يبقى جزء من جسمها إلا جرح ونزف .
- هؤلاء هن النسوة الزواني .ونحن من رجمناهن حتى الموت حسب الشرع .
أجابت إحداهن صارخة بحرقة وألم .
قد أكون أخطأت .فهل سألتم عن ظروفي .قد أكون أستحق العقاب .فلماذا بهذه الوحشية .بهذا الموت المؤلم البطيء .
يوجد على الأرض جرائم أبشع مما ارتكبت أنا .فلماذا عقاب جريمتي هو الأبشع؟
لم يعد الرجل يتحمل لا مناظر الألم ولا كل هذه التناقضات في الآراء .فقرر الرجوع إلى المشرف لينهي حيرته بسؤال أخير .
- اعذرني عندي آخر سؤال وهو من سينهي حيرتي مما أرى ومما اسمع .ولن يساعدني فيه غيرك.
- إن كان الأخير فأنجز .
- سمعت من هؤلاء البشر قصص عجيبة .وكل منهم منتظر العدالة حسب إيمانه وشرع إيمانه .فكيف سيتم محاسبتهم وعلى أي الملل .؟
- سيحاسبون فقط على أساس العدل الإلهي الذي وهب لهم جميعا بالتساوي .عقلا حكما .وضميرا رادعا .
فاذهب الآن من هنا .فهناك من يناديك .
اصغ السمع بتركيز وكان صوت زوجته يناديه من بعيد .
- ياسر .ياسر .ياسر .
يا دكتور سعيد أغثني أحمد ملقى على الأريكة ولا يسمعني ولا يرد عليه .
تقدم احد حضور حفل العيد ميلاد منه وفحصه بسرعة .ثم قال للزوجة .
- يجب أن ينقل للمستشفى حالا .فهو في غيبوبة .
رضية حاتم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق