إعلان أعلي المقال

أكثر من 400 حالة تعذيب في تونس، خلال الفترة الممتدة من أكتوبر 2013 إلى أكتوبر 2015، وفق ما أعلن عنه الرئيس المتخلي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان السيد عبد الستار موسى، استنادا إلى ما ورد في التقرير الثاني حول «واقع الحريات بتونس». وهو ما يدل  على أن ممارسة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية واللاانسانية والمهينة، مازالت موجودة في تونس رغم أن تجريم تلك الممارسات كان صريحا في نص الدستور. وقد ظنّ التونسيّون بعد الثورة، أن سياسة التعذيب وسوء المعاملة التي كانت تنتهجها الدولة «البوليسيّة»، في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، للتنكيل بالمحتجّين والمعارضين، قد ولّت إلى غير رجعة، ولكن الظاهر عكس ذلك حسب تأكيد العديد من الحقوقيين الذين بينوا أن الثورة التونسية لم تنجح إلى الآن في وضع حدّ لجرائم التعذيب في السجون وفي مراكز الإيقاف، و حسب رأيهم و متابعتهم للوضع العام في تونس تبين أن  نفس الممارسات لا تزال متواصلة وفق الأساليب ذاتها. وفي الأثناء مازالت جريمة التعذيب « خطّا أحمر » لا يطالهُ ميزان العدالة حيث تحوّلت ثقافة الإفلات من العقاب إلى ما يشبهُ الحصانة التي تقي الجلّاد شرّ الحساب مثلما ذهب إليه عدد كبير من المنظمات الحقوقية والمناهضة للتعذيب وفي مقدّمتها، المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، التي أصبحت تتلقّى الشكاوى بنسق شبه يومي منذ أن سُمِح لها بالنشاط القانوني عقب اندلاع الثورة وتحديدا في النصف الثاني من شهر جانفي سنة 2011.
المئات من الملفات  يقدمها ضحايا التعذيب الذين ينتظرون أن تنصفهم العدالة. ولكن لسائل أن يسأل أين هي هذه الملفات؟ وما هو مصيرها ؟ «الصحافة اليوم» بحثت في خفايا هذا الموضوع و حاولت الكشف عن بعض الجوانب الغامضة فيه من خلال هذا التحقيق.
يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أو عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعترافات، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث ، أو عندما يُلحِق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرّض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. .و لعل هذا التعريف يحيلنا إلى التطرق إلى واقع التعذيب في تونس و خاصة مصير قضايا التعذيب المرفوعة من قبل الضحايا و مدى التزام تونس بالمعايير الدولية التي صادقت عليها في هذا الشأن.
في هذا الإطار أعلن المقرر الخاص للأمم المتحدة حول التعذيب، عقب زيارته إلى تونس، أنه «رغم التقدم الحاصل في مكافحة التعذيب، ورغم أن الضحايا أصبحوا لا يخشون رفع دعاوى، إلا أن ما قامت به النيابة العامة والقضاة للتحقيق فيها، لا يكاد يذكر للأسف». ودعا المقرر الحكومة إلى فتح تحقيقات عاجلة ومعمقة في مزاعم التعرض للتعذيب، ومحاكمة مرتكبيه، وتمكين الضحايا من التعويض اللازم. وفي هذا السياق ذكرت آمنة القلالي مديرة مكتب تونس لهيومن رايتس ووتش   «في الواجهة، يمكن أن نقول أن هناك تقدما مؤسساتيا وتشريعيا لمنع ممارسة التعذيب» مشيرة إلى أن الدستور الجديد المصادق عليه مطلع 2014 يجرّم استعمال التعذيب لانتزاع اعترافات من متهمين، ويضمن الحرمة الجسدية للمتهم. وأضافت القلالي أن المشكل الأساسي يتمثل  في متابعة الملفات المتعلقة بمزاعم التعرض للتعذيب معتبرة أن  اليوم يوجد  نظام جديد بصدد أخذ مكانه لكنه لا يزال يعتمد على أسس نظام قديم، ما يعني أن القضاء لم يقم بثورته  بعد على حد تعبيرها.
وتبقى قضايا التعذيب محاطة بالكثير من الأسرار بخصوص حيثياتها وأسماء المتورطين فيها، وتزداد الأمور تعقيدا عندما نجري مقارنة بسيطة بين عدد الضحايا الذين يقدّرون بالمئات ونسبة الإدانة التي تكاد تكون معدومة. حسب ما أكدته العديد من المنظمات الحقوقية.
أرقام مفزعة
جاء في التقرير السنوي للمنظمة التونسيّة لمناهضة التعذيب، أنّها تلقت خلال السنة المنقضية 250 شكوى من ضحايا التعذيب وذويهم. وجدت معظم الانتهاكات في مراكز الإيقاف والسجون التونسيّة، وأغلب حالات التعذيب (70 %) ارتكبها أعوان الشرطة، فيما استأثر حرّاس السجون بـ (30 %) من الانتهاكات الحاصلة في حقّ مواطنين، بينما لم تتجاوز نسبة سوء المعاملة من أعوان الحرس الوطني الـ (10 %). وتنوّعت أشكال التعذيب، فمنها ما كان في شكل عقاب (62 %)، ومنها ما كان ناتجاً عن انتزاع اعترافاتٍ بالقوّة (19 %)، ومنها ما كان إهاناتٍ مختلفة، تتراوح بين التهديد والشتم والاستفزاز المهين. ويفيد التقرير بأنّ الشباب بين 19 و39 عاماً هم الأكثر عرضة للانتهاكات، وأنّ 80 % من الضحايا من الذكور. و رغم طابعها النسبي فإن هذه المؤشرات تعكس فعلا واقع ظاهرة التعذيب في تونس و تتمثل أبرز ملامحها في معاناة مئات المواطنين التونسيين الذين تعرضوا إلى الضرب بالهراوات وبالقضبان الحديدية والركل بالأحذية العسكرية والصّعق الكهربائي والحرمان من الأكل والشرب والعزل والسجن الانفرادي... وغيرها من الأشكال، ما تسبّب لهم في مضاعفات نفسية واجتماعية تكاد تكون في بعض الأحيان أعنف من التعذيب المادي في حد ذاته.
و أمام  ارتفاع عدد ملفات وقضايا التعذيب في تونس  يحقّ التساؤل عما إذا كانت القوانين تسمح بمثل هذه الاعتداءات وتبيحها، و إذا كانت السلطة تخول لصاحبها تعذيب السجين والتسبب له في عاهات جسدية وأحيانا الموت . وإذا  توفرت القوانين والأطر التي تحمي المساجين والموقوفين، ما الذي يضمن عدم الاعتداء على الحرمة الجسدية للإنسان وعدم إفلات المعتدي من العقاب؟
قوانين لا تطبّق
لم تختلف المعايير الدولية واتفاقيات مناهضة التعذيب والقوانين الجزائية في تعريف التعذيب، وكان التعريف بنفس ما جاء باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب  المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة الصادرة في عام 1984 والتي صادقت عليها تونس في  1988/9/23. كما خصص  القانون الجزائي  التونسي للتعذيب قسما كاملا بعنوان «في تجاوز حدّ السلطة وفي عدم القيام بواجبات وظيفة عمومية» : حيث أكد في  الفصول من 101 إلى  105 وفي فصول أخرى متفرقة أن التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون ومدة عقوبتها تتراوح بين الخمس سنوات و السجن مدى  الحياة. حيث ينص الفصل 101 مكرر في فقرته الأولى على أنه : «يعاقب بالسجن مدة ثمانية أعوام الموظف العمومي أو شبهه الذي يخضع شخصا للتعذيب وذلك حال مباشرته لوظيفه أو بمناسبة مباشرته له».
فهل تطبق هذه القوانين فعلا ؟ أم أن المنظومة الجزائية هي مجرد نصوص تعتمد كواجهة تخفي حقيقة موجعة قد تكون فقط مجرد شعارات للدعاية بوجود قوانين لحماية الحرمة الجسدية وحقوق الإنسان؟ في هذا الجانب أكد الأستاذ أحمد الرحموني  رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء أن قضايا التعذيب استثناء عن بقية القضايا الأخرى لم يقع التطرق إليها بالكيفية اللازمة سواء على مستوى التحقيق في حيثياتها ووقائعها أو من خلال الأحكام الصادرة في شأنها.
مماطلة في التعاطي مع قضايا التعذيب
وفي الإطار نفسه  أضاف القاضي أحمد الرحموني أنه رغم مبادرة النيابة العمومية منذ سنتين بفتح تحقيق في معظم قضايا التعذيب المرفوعة إلا أن الملفت للانتباه أن التحقيق في هذه القضايا يستغرق وقتا زمنيا طويلا ولعل هذا ما يثير عديد التساؤلات حسب تعبيره مبرزا أن قضايا التعذيب شائكة وأن عدم إحراز تقدم في التعامل معها مرده غياب الدور الفعلي للدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية رغم إنشائها لمساندة القضاء العدلي في مثل هذه القضايا، ولكن إلى حد اليوم تشهد العدالة الانتقالية في تونس تعثرا حسب تأكيده وتعود أسباب هذا التعثر بالأساس الى غياب الإرادة السياسية التي تدفع إلى هذا المسار. وقال أن قضايا التعذيب إما أنها تشكو بطءا على مستوى القضاء العادي أو أنها تشكو تعطيلا على مستوى العدالة الانتقالية. واعتبر رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء أن هذا التلكؤ يثير العديد من التساؤلات في ظل استمرار وجود ظاهرة التعذيب في تونس حتى بعد الثورة مشيرا إلى أن عدم تتبع جرائم التعذيب يعني بالضرورة الإفلات من العقاب أو إصدار أحكاما مخففة كالتي صدرت عن المحكمة العسكرية في ما يخص قضايا التعذيب على غرار قضية «براكة الساحل» التي كان الحكم فيها مخيبا للآمال حسب قوله ، و أضاف الرحموني أنه لا يجب أن تكون خصما و حكما في الآن ذاته.
تجاوزات فردية وليست مؤسساتية
كانت جرائم التعذيب في تونس قبل الثورة من المواضيع التي لا يقع التطرق إليها وكان «الجلاد» محميّا ، لكن بعد الثورة لم يعد بالإمكان إخفاء آثار التعذيب أو التلاعب بشهادات طبية أو إسكات المعتدي إلا في حالات نادرة فقد أصبح الأمر رهين صور يلتقطها مواطن عادي بهاتفه فتتحول إلى قضية رأي عام تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي وتصبح ورقة ضغط على الفاعل ومن يحميه. وفي هذا السياق بيّن الحبيب الراشدي كاتب عام جمعية مراقب ونقابي أمني أن التغيّر الحاصل عقب الثورة بخصوص التعامل مع الملفات المتعلقة بالتعذيب تشوبه العديد من الشكوك والغموض لأن المنظمات المناهضة للتعذيب في تونس حسب تعبيره تبالغ في الأعداد والأرقام التي تقدمها في هذا المجال مشيرا إلى أن هذا الأمر منطقيا لأن جل هذه المنظمات تتلقى دعما من الخارج وفي غياب حالات التعذيب يتوقف الدعم.
من جهة أخرى أكد أن جرائم التعذيب في تونس يرتكبها أفراد و لا يمكن نسبها إلى المؤسسات الأمنية أو العسكرية لأنها جرائم فردية يعاقب عليها الفرد و ليس المؤسسة على حد تعبيره. واعتبر الراشدي أن قضايا التعذيب مسيّسة بامتياز وهذا ما يجعلها تُقبر في الأدراج وأضاف أن في عدم وجود قضاء مستقل لا يمكن الحديث عن عدالة أو أحكام عادلة خاصة أمام غياب مفهوم واضح للتعذيب في تونس.
لئن تعتبر ظاهرة التعذيب ظاهرة عالمية وليست استثناء لتونس ومهما تعددت وجهات النظر وتباينت المواقف بخصوص جرائم التعذيب في تونس فإن المتفق عليه أن هذه الجرائم تتغذى من ثقافة الإفلات من العقاب ، نتيجة غياب الهياكل المختصة وعدم استقلال القضاء وتسييس قضايا التعذيب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال