إعلان أعلي المقال




كنت وعدتكم بالأمس بكتابة نصّ عن شريط " زهرة حلب"، وها أنا أفي بوعدي... سأسمّيه.." قراءة انطباعيّة لزهرة تونس."

قرأت شريط "زهرة حلب" قراءة قيميّة... طرحتُ سؤالا، بعد مشاهدته، أي قيم نقلها الشّريط؟ وأيّ رسالة أراد المخرج تبليغها؟ السّؤال خطير من جهة أنّ هذا الأثر الفنّي يندرج في جملة الأعمال الأخرى، دراميّة كانت أم وثائقيّة، المتصدّية لموضوع نحن في حرب ضدّه وهو موضوع الإرهاب.
أوّلا) موجز الحكاية: مسار المجاهد ومسار أمّ المجاهد.
مراد شابّ في الثّامنة عشر من عمره، تلميذ يستعدّ لاجتياز الباكالوريا يعيش وحيدا في تونس مع أمّه سلمى ممرّضة في مجال الإسعاف. والدُه، فنّان يعيش منفصلا عن بقيّة العائلة مستقلاّ بذاته لا اهتمام له إلاّ بفنّه. في هذه الوحدة عاش الولد بين معهده وصديقته، تدرس معه، وقيثارته. في نفس الحيّ كانت تنشط مجموعة سلفيّة. أحد أفرادها، صديق لمراد، استقطبه تدريجيّا لينظمّ إليهم. استوعبته المجموعة وأقنعه قائدها بضرورة الالتحاق بسوريا والجهاد في صفّ "جبهة النّصرة". وهذا ما حصل فعلا، كلّ ذلك لا محالة دون علم الأمّ والأب. وعندما علمت الأمّ بالخبر قرّرت أن تسافر إلى سوريا لجلب ابنها.
من تونس إلى تركيا ثمّ إلى الأراضي السّوريّة وجدت الأمّ نفسها، بتدبير مسبق، في جبهة النّصرة. درّبتها الجبهة على حمل السّلاح وانتدبتها في فرقة الاسعاف. وانخرطت الأمّ في هذا الجهاد دون أن تنسى هدفها المسطّر: العثور على ابنها. ولكن في هجوم شنّه الدّواعش على قافلة للجبهة أسرت سلمى وتعرّضت إلى الاغتصاب على يد مقاتلي داعش. فقرّر قائد النّصرة، شيخ مريض، أن يرسل أفضل رماته لتخليص الأسرى مشدّدا على تخليص سلمى. وفي ضمن المجموعة الّتي تمّ اختيارها كان هنالك ابنها ورفيقه ( قائده) التّونسي.
وبينما كانت هذه المجموعة مرابطة قرب مكان احتجاز مقاتلي النّصرة، تمكّنت الأم في الدّاخل من الاستيلاء على سلاح وقتلت به كافّة عناصر داعش. وفي إطار التّمويه لبست الأمّ الزيّ العسكري لأحد مقاتلي داعش وخرجت من حبسها. فتعقّبها عناصر النّصرة وأطلق عليها ابنها الرّصاص وأرداها قتيلة وفي اعتقاده أنّها رجل. ولم يتفطّن لذلك إلاّ عندما أماط عنها اللّثام. وهنا تنتهي الحكاية.)

سأتولّى تحليل الحكاية حسب الإطارين المكانيين الأساسيين: تونس وسوريا.
ثانيا) المشهد التّونسي أو بالأحرى الحكاية التّونسيّة.
شكّلت تونس العاصمة الإطار الّذي نشأت فيه الأحداث وتطوّرت ضمنه الشّخوص. واعتبارا إلى أنّ مراد ( في تصوّري) مثّل الشّخصيّة المحورية فسنحلّل هذا الإطار الّذي نما فيه. انتمى مراد إلى عائلتين اثنتين: عائلته الطبيعيّة وأسرته "بالتّبنّي" وهما يقفان، في تمثّل المخرج، على طرفي نقيض.
صورة العائلة الطبيعيّة: توتّر وانحلال وتفكّك وغياب ولامبالاة
تتكوّن هذه العائلة من أب وأمّ وخالة.
الأب فنّان في مجال الرّسم والنّحت. يقف على عتبة الشّيخوخة. انتقل من فرنسا ليعيش في تونس مستقلاّ في مسكنه. مهمل لنفسه ولعائلته. ومدمن على الخمر وحالم في ملكوت فنّه.
الأم ممرّضة في مجال الإسعاف وهي الّتي تقود سيّارة الإسعاف. منهمكة في عملها إلى أقصى الحدود. ما زالت تحافظ على كهولتها.
الخالة في مقتبل العمر تدير مؤسّسة لتعليم الرّقص.
يحكم التّوتّر والقطيعة علاقات هذه الأطراف. فالأب والأمّ مستقلّ كلّ منهما ببيته. في مرحلة طلاق أعلنت عنه المحكمة وشكّل حدثا عرضيّا في الشّريط. لا نعلم مِن أسباب الطّلاق سوى دافع وحيد( ربّما أكون مخطئا في ذلك) وهو استهتار الزّوج. الأمّ أيضا في قطيعة مع أختها ربّما بسبب الغيرة بعد أن قبلت الأخت أن تكون عارضة لدى الزّوج الفنّان. القطيعة تحكم أيضا العلاقة بين الأب والابن. فالأب لا يهمّه من أمر ابنه شيء والابن لا يحمل سوى شعورا راسخا بالبغض والاحتقار نحو الأب. والمرّة الوحيدة الّتي التقيا فيها كانت في المقهى وانتهى اللّقاء بينهما باندلاع الكره على قارعة الطّريق: الابن يشتم والده والوالد ينهال على ابنه ضربا.



لا محالة لم تخلُ هذه الصّورة القاتمة من ومضات ضوء شفيف وباهت. فالعلاقة بين الزّوجين، وإن سارت في طريق الطّلاق، كانت أشبه ما يكون بعلاقة بين صديقين. وعلاقة الأمّ بابنها لا تخلو من لحظات حنان وودّ. لكنّ ذلك لن يغيّر واقع الفراغ والوحدة والعزلة الّتي يعيشها الفتى... عالمه ضيّق وهو في مقتبل العمر. لن ترى منه، وأنت تشاهد الشّريط، سوى صديقته التّلميذة ولن تسمع سوى بعض دندناته على القيثارة. وخالته الّتي قضى عندها ليلته الأخيرة في تونس قبل أن يرحل إلى سوريا.
تتعمّق هذه العزلة بالغياب المؤسّساتي. فلا نجد أثرا للمعهد الثّانوي الّذي يرتاده مراد. فقط يصله صدى تأـسّف أساتذته على انقطاعه عن الدّراسة عن طريق صديقته. ولا إشارة لمعالجة إداريّة لوضعه. ( في الأصل تعالج إدارة المعهد غياب التّلميذ غير المبرّر بإعلام الوليّ بواسطة بريد مضمون الوصول في إشعار أوّل بالغياب ويليه إشعار ثان وإعلام أخير قبل شطب اسم التّلميذ وأخيرا إعلام بالشّطب ويستغرق ذلك حوالي شهر من بداية غياب التـلميذ). في هذا الغياب لم يبق لمراد من ملاذ آخر سوى الأسرة الجديدة الّتي ستتبنّاه برحابة صدر.
صورة أسرة التّبنّي: الأخوّة والتّآزر والتّراحم والانضباط والطّاعة.
انضمّ مراد تدريجيّا لأسرته الجديدة قبل أن يقطع علاقته بعالمه القديم نهائيّا عندما قطّع أوتار قيثارته. تتكوّن هذه الأسرة من مجموعة من الشبّان السّلفيّين. متقاربون في السّنّ. يقرؤون القرآن يسألون عن بعضهم البعض يتحلّقون مع بعضهم حول مائدة الطّعام يمدّون مراد ببعض الكتب الدّينيّة وأقراص مدمجة. تمّ الاندماج عن طريق صديق له من أبناء حيّه. ثمّ التحق مراد بالمجموعة نهائيّا. عمل المخرج على أن يكون مراد هو الطّالب للّجوء. ومن ثمّة يدخل مرحلة جديدة في التّكوين: التّدرّب على استعمال السّلاح تحت إشراف قائد المجموعة شخصيّا..( نسيت اسمه ولكن محمّد علي بن جمعة يلعب دوره). لم نر المجموعة في مواجهة المجتمع إلاّ في مناسبة واحدة عندما انتقلت، بواسطة سيّارة رباعيّة الدّفع إلى محلّ تجاريّ مختصّ في بيع الملابس الدّاخليّة للنّساء وطالبوا العاملين به بستر التّماثيل النّسائيّة المعروضة في الواجهات البلّوريّة مرتدية تبّانا وحصّارة صدر.)
هل هنالك إدانة ما؟ لا... لم تكن هنالك أيّ إدانة. هل ذكرت كلمة "إرهاب" ولو عرضا؟ ولا مرّة. فالمتفرّج لا يعلم من أين أتت الأسلحة للتّدرّب ولا من أين أتى المال للأكل وغيره. ولا فكرة عن الجهة المانحة للسيّارة رباعيّة الدّفع. بل أكثر من ذلك. فعندما سافر مراد إلى سوريا كان قائده في تونس رفيقا له، قائد يُقرن الأقوال بالأفعال. وستتواصل هذه الرّفقة إلى آخر مشهد من الشّريط. هم، عموما، أناس يعملون من أجل "قضيّة". هكذا أرادهم المخرج ولا يهمّني إن كان يدري أو لا يدري. وسنبرز ذلك لاحقا في تحليل المشهد السّوري... المهمّ أنّ المخرج نأى بنفسه عن توريط أيّ جهة سياسيّة في قضيّة الجهاد في سوريا. وحتّى حركة الأمّهات الفاقدات لأبنائهنّ برزت حركة معزولة أقرب أن تكون تجمّع يأس ومبكى ثّكالى. ولم يتورّط سوى الفنّ والفنّانون... الفنّان المتأزّم ( الأب) والخالة أستاذة الرّقص... عندما سألت ابن أختها ما الّذي غيّره صارحها بأنّه في حالة عشق لله.. فقالت له بما معناه " أنا أيضا أتقرّب إلى الله عن طريق الرّقص..." والحال أنّه رقص شرقيّ ولم يكن رقصا صوفيّا. ردّ أثار ضحك الجمهور في القاعة.
ثالثا) المشهد السّوري: النّصرة الطّيّبون والبقيّة الأشرار
بخروج الأمّ من تونس انفتح لنا مشهد جديد: المشهد السّوري. ولكن كيف تمكّنت الأم من الخروج؟ سؤال ينبغي أن يُطرح. تدبّرت، بعد محاولات، أمرها بعد أن تخلّت عن سفورها وتلفّعت بالحجاب. والتقت بشيخ في بيته يفصل بينهما حجاب. قدّمت نفسها كمتطوّعة للجهاد في سوريا ورفع راية الخلافة وهلمّ جرّا. كان ينبغي ألاّ تفصح عن دافعها الحقيقيّ، البحث عن ابنها وإعادته إلى تونس. ونجحت في مسعاها وسافرت.. هل قبض الشّيخ مالا مقابل هذه الهديّة الجديدة لثوّار سوريا؟ يبقينا المخرج على ضمئنا..لعلّها هي من دفعت مالا؟.. المهم لن نعرف شيئا عن هذه المسألة.
النّصرة الطيّبون والجهاديّون التّونسيّون الأشاوس
انتقلت الأمّ إلى سوريا عبر تركيا. اقتبلها رجل تركيّ في قصره علامات الثّراء بادية عليه، ولا تحرّكه سوى دوافع دينيّة بحتة. هو الّذي تولّى أمر نقلها إلى سوريا مكلّفا سائق على ذمّتها. المعبر، على الحدود السّوريّة التّركية، الّذي ستسلكه السّيّارة يقع تحت رقابة مقاتلي جبهة النّصرة. وبعد التثبّت في هويّتها قال لها المقاتل:" مرحبا بك في سوريا الحرّة...". ثمّ وصلت السيّارة إلى مقرّ القائد المحلّي للنّصرة "أبو محمود".
لن نشاهد " أبو محمود" من البداية. ولكن نشاهد المعسكر.. يضمّ المعسكر العديد من المقاتلين ومن ضمنهم مراد ورفيقه. تنشط فيه أيضا عدّة نساء يطبخن الطّعام ويتدرّبن على السّلاح، وتولّت إحداهنّ تدريب سلمى. وسرعان ما التحقت سلمى إلى جبهة القتال في مهمّة الإغاثة والإسعاف باسم حركيّ "أم مراد"... مقاتلو الجبهة لا يقاتلون سوى جنود الأعداء.. ولا يعتدون على المدنيّين. لم يفكّر أيّ منهم، ولم يحاول، أن يلمس سلمى ( لا ينادونها باسمها الحركي) ولا يعذّبون أسراهم. وقد تميّز المقاتلون التّونسيّون بدقّتهم في التّصويب وشجاعتهم وطاعتهم لقادتهم، هؤلاء القادة من السّوريّين وعلى رأسهم " أبو محمود". هذا القائد هو شيخ بوقار شاميّ مريض مسجّى على فراشه... أصبح يُكنّ لسلمى عطفا خاصّا بعد اعتنت به كممرّضة. وعندما وقعت في أسر الدّواعش أعطى تعليماته لتوجيه فرقة من مقاتليه لتحرير الأسرى موصيا عليها بصفة خاصّة..( عرفت السّينما العربيّة شيخا آخر: شيخ المجاهدين).
بالمقابل بدا الدّواعش، في معسكرهم، غاية في التّوحّش بتعذيب الأسرى واغتصاب سلمى... هكذا وضعنا رضا الباهي أمام خيارين أحلاهما مرّ.
كادت الرّمزيّة أن تضيع في تلافيف الصّور الواقعيّة.
سأجد للشّريط مخرجا وذريعة للتّخلّص من هذا التّوريط لأقول إنّه موغل في الرّمزيّة. سأقول بأنّ المخرج أراد أن ينبّهنا إلى أنّنا نحن من نحمل موطن ضعفنا في مواجهة غول الإرهاب. وأنّ القطيعة بين الآباء وأبنائهم وبين الأجيال سرعان ما يينع فيها داء التّطرّف. وبأنّ فنّنا ينبغي أن يكون في خدمة قضيّة انسانيّة..سأقول بأنّ المشرق العربي، مجسّدا في شخصيّة الرّجل اللّبناني اللاّجئ إلى تونس وأصبح تونسيّا، جاء إلينا ليبني معنا بلدنا بترميم كتبنا القديمة في حين كافأناه نحن بإرسال أبنائنا لتهديم وطنه. سأقول بأن الكتاب الّذي حرصت سلمى على إهدائه لابنها إنّما هو رمز للمعرفة الّتي طالما حرص الـتّونسيّون على توريثها لأبنائهم جيلا بعد جيل. سأقول بأنّ الأمّ، واسمها سلمى سلمت من كلّ مكروه، ليست سوى تونس الأبيّة الّتي رفضت الأمر الواقع وخاضت مغامرة ملحميّة لتعيد أبناءها إليها. وبأنّ هؤلاء الأبناء، لا قدّر الله، هم من سيقتلونها...
إن كان هذا هو المقصد فإنّي سأطرح سؤالا استنكاريّا: هل الحرب على الإرهاب تحتاج رمزيّة؟ هل رأيت، سي الباهي، في جبل الشّعانبي جنديّا تونسيّا يحمل وردة، بدلا عن بندقيّته الشّريفة، كرمز للمقاومة. لا نطلب من مبدعينا سوى الوضوح في هذا الضّباب المطبق حولنا... فالتّرميز سلاح المبدع ولكنّ الصّورة الواقعيّة أشدّ فتكا.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال