إعلان أعلي المقال

ليلة استثنائيّة عاشها التونسيّون أمس الخميس 17 نوفمبر 2016، حيث عادوا إلى حقبة من الزمن شهدت العديد من الانتهاكات خلال حكم بورقيبة وبن علي (من 1955 إلى 2013).
لأوّل مرّة يقف ضحايا الاستبداد والتعذيب أمام الكاميرات ليروا ما عاشوه، ليعلنوا على الملأ أنّه تمّ تعذيبهم وضربهم وحرمانهم وتشريدهم هم وعائلاتهم على امتداد عقود من الزمن.
"اعتذروا وسنغفر" هكذا قال الباحث سامي براهم في مداخلته، متحدّثا عن ما عاناه في السجون التونسيّة أثناء فترة نظام بن علي، بعد اتهامه بالتورط فيما يعرف بـ"مجموعة المروج" إلى جانب 60 شخصا، مشيرا إلى أنّ المحجوز الذي على أساسه تم اتهامهم بتهديد أمن الدّولة كان مجرّد 'مسدّسات من عهد الاستعمار تستعمل للزينة وبندقية صيد تالفة ... المحاكمة كانت فعلا مهزلة ووصمة عار للقضاء آنذاك'.
براهم تحدّث عن التعذيب الذي تعرّض له في السجون لا لشيء إلا لأنّه سجين سياسي على غرار ما يحدث في سجن 'أبو غريب' ورفض الخوض في التفاصيل حتى لا يحزن عائلته.

 

اشتكى من المعاملة فكان جزاؤه الفلقة
سامي براهم أكّد أنّ ما حزّ في نفسه حادثتين تركتا جرحا غائرا لا يُمحى، الحادثة الأولى يوم 10 ديسمبر 1992 بالتزامن مع ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عندما كان في سجن الهوارب، فطلب من المحاضر الذي ألقى كلمة للسجناء عن حقوق الإنسان زمن بن علي أن يدعو مدير السجن إلى تحسين معاملة السجناء، فكان جزاؤه الضرب "بالفلقة" من طرف مدير السجن ووضع رأسه في المرحاض، ما جعله عاجزا عن الوقوف على ساقيه لمدّة أسبوعين، حسب روايته.
الحادثة الثانية كانت في ذكرى الاستقلال 20 مارس 1994، في نفس السجن حين تمّ تجريده وبقيّة من معه في السجن الإنفرادي من ملابسهم ودفعهم فوق بعضهم البعض وطلبوا منهم القيام بأفعال مشينة تحت أنظار نائب مدير السجن المكلف بالإصلاح، وهو مختص في علم النفس كان مكلفا بالتشويه الأخلاقي للمساجين السياسيين.
وقال إنّ ما مرّ به لسنوات لم يستطع تجاوزه إلى الآن، مستدركا "ربّما بعد أن تحدّثت عنه وفي العلن قد أستطيع القيام بذلك اليوم"، داعيا "جلاديه" الذي رفض الإفصاح عن اسمائهم إلى الاعتراف بما اقترفوه وتوضيح الأسباب التي دفعتهم للقيام بذلك، للصفح عنهم وحتى تطوى الصفحة السوداء في تاريخ تونس.

 

الحكومة تناست الترحّم على أرواح شهدائنا

شهادة أخرى، لا تقلّ فظاعة روتها وريدة الكدوسي والدة الشهيد رؤوف الكدوسي الذي قتل برصاصتين استقرتا في صدره يوم 8 جانفي 2011 في مدينة الرقاب بسيدي بوزيد ليُترك على قارعة الطريق إلى أن وافته المنية.

وريدة قالت إنّ ابنها كان ينتمي إلى جماعة 'الدعوة والتبليغ' وفي أحد المظاهرات حاول الدفاع عن صديقه الذي تم القبض عليه من طرف فرقة خاصّة تم إرسالها إلى الجهة لإخماد التحركات الاحتجاجيّة، لكن الرصاصة كانت أسرع وتم منع المتظاهرين من إسعافه.
والدة الشهيد أكدت أنّها لن تتخلى عن حقّ ابنها الشهيد ومصرّة على محاسبة من قتلوه مستنكرة تعاقب الحكومات وتجاهلها لآلامهم، قائلة "أعضاء الحكومة تناسوا الترحم على أرواح شهدائنا والحال أنّ عودتهم من المنفى وتقلدهم المناصب كان بفضل دماء أبنائنا".
وكرّرت وريدة جملتها الشهيرة "لديّ 4 أبناء ومستعدّة للتضحية بهم لتونس حتى ننعم بالحريّة والحياة الكريمة ... ومن ينعت الثورة بثورة "الجياع والبرويطة" غير مخطئ لأنّ مثقفينا منشغلون بأمور أخرى".

نفس الصورة القاتمة روتها ربح والدة صلاح الدشراوي الذي تم إطلاق النار عليه يوم 8 جانفي 2011 وقالت إنّهم تعودوا الموت والرصاص مطالبة بحقّ ابنها وبقيّة شهداء ولاية سيدي بوزيد.
حمل الراية الوطنيّة فكان جزاؤه رصاصة في الصدر
فاطمة أمّ الشهيد أنيس الفرجاني الذي أصيب برصاصة في العاصمة يوم 13 جانفي 2011 في رجله عندما كان يحمل الراية الوطنيّة وتُرك مرميّا على قارعة الطريق ينزف هو وشاب آخر أصابه أيضا حسب مقاطع فيديو قام بالتقاطها أحد المتساكنين من سطح عمارة قريبة من مكان الحادثة، ليتمّ نقلهما فيما بعد إلى مستشفى بن عروس عوض التوجّه إلى أحد المستشفيات القريبة.
وقالت أم الشهيد إنّه رغم وجود مقاطع الفيديو واعترافات شهود عيان بثبوت التهمة، لكن المحكمة العسكريّة لم تنصف دم ابنها وتم تخفيف عقوبة "القاتل" من 12 سنة إلى 3 سنوات سجن قضّاها وغادر السجن في 2014.
فاطمة قالت إنّ من يعتقد أنّها ستنسى وستجفف دموعها بعد سنوات من موت ابنها مخطأ لأنها متمسكة بحقه وأن ينال من قتله العقوبة التي يستحقها بعيدا عن "اللعبة السياسيّة التي جعلت المجرم بريئا".

 

ماجدولين الشارني أساءت معاملة عائلات الشهداء
فاطمة اتهمت خلال مداخلتها كاتبة الدولة ماجدولين الشارني التي كانت مكلفة بملفات الشهداء والجرحى من العسكريين والأمنيين في حكومة الحبيب الصيد، بسوء معاملة عائلات الشهداء والجرحى وعدم تمكينهم من حقوقهم، مضيفة أنّها كانت حريصة على شهداء المؤسسة الأمنية فقط.
وطالبت أمّ الشهيد أنيس الفرجاني بإنصاف ابنها وسحب ملف الشهداء والجرحى من القضاء العسكري وإحالته على الدوائر القضائية المختصة التابعة لمسار العدالة الانتقالية.

 

اختفاء قسري وموت تحت التعذيب
شهادة أخرى مؤلمة عن قضية اختفاء قسري روتها لطيفة زوجة كمال المطماطي مهندس في شركة الكهرباء والغاز بقابس قُتل تحت التعذيب سنة 1991، ولم تعلم عائلته بوفاته إلّا بعد مرور 20 سنة وتحصّلت على حجّة وفاته في 2016.
وقالت إنّه تمّ إيهامهم بأنّه على قيد الحياة بل وطالبوهم على امتداد 3 سنوات بجلب الملابس والأكل في حين كان الفقيد في عداد الموتى، مؤكّدة أنّ قبره ما يزال مجهولا إلى اليوم.
كما تحدّثت عن الهرسلة والتعذيب الذي تعرض له كلّ أفراد العائلة لمدّة سنوات مدّعين أنّ كمال المطماطي هرب خارج حدود الوطن وحرم أبناؤه من راتبه طوال 20 سنة رغم أنّه كان إطارا ساميا في 'الستاغ'.

بورقيبة أساء التقدير وهكذا عامل معارضيه
المهندس والمعارض السياسي جلبار نقاش شهادته كانت أعمق وأشدّ وطأة حين تحدّث عن ما تعرّض له غداة الاستقلال وأثناء بناء الدولة البورقيبية الحديثة.
التونسي من أصل يهودي تعرّض إلى أقسى أنواع التعذيب في السجون من 1968 إلى 1979، بعد التفطن إلى انتمائه لمجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي (برسبكتيف) والإقامة الجبريّة التي فرضت عليه وحرمانه من جواز سفره والعمل.
العنف الذي سلّط عليه في مكاتب وزارة الداخليّة وفيما بعد في سجني 9 أفريل وبرج الرومي خلّف له أضرارا بدنيّة ونفسيّة ما زال يعاني منها إلى اليوم، حسب قوله.
جلبار نقاش تحدّث عن عهد بورقيبة والخطأ الذي ارتكبه يوم الجلاء وراح ضحيته أرواح بريئة في بنزرت بسبب سوء تقديره وعدم تكافؤ موازين القوى بين الجيش التونسي والفرنسي والهفوات التي ارتكبها بشكل متتالي بغاية البقاء في الحكم.
هذه الشهادات المؤلمة لأشخاص عانوا طوال 'سنوات الجمر'، ما مرّوا به ما زال حيّا في أذهانهم بسبب أثره الذي لن يندمل إلّا بمحاسبة الجلادين وإرجاع الحقّ لأصحابه.
ضحايا انتهكت حقوقهم وحرموا من الحياة الكريمة ينتظرون من العدالة الانتقالية أن تعيد لهم ما سلب منهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال