إعلان أعلي المقال

في القاهرة، ينظرون الى «ثلاثاء أمريكا الكبير» كما لو كان حدثا باهتا، وفي تونس، لا تكاد ترى متحمّسا لانتصار كلينتون أو ترامب، وتكاد المسألة لا تطرح في سوريا او في اليمن او في لبنان، لأن الجميع يعلم أن حروب الوكالة ستستمرّ بهذه المرشحة الديمقراطية او بذلك المرشح الجمهوري.. لأنّ الجميع يعلم ذلك الافتتان الأمريكي الأزليّ بخزائن اللوّبي الصهيوني، وأصواته، وذلك الانجذاب الأمريكي الى منتوج وعد بلفور... وسواء نقل ترامب سفارته في إسرائيل الى القدس، أو أبقتها هيلاري كلينتون في تل أبيب، فإن السياسة الخارجية واحدة... العرب يصلحون عند الولايات المتحدة للاستعمال الظرفي لا للتحالف الاستراتيجي، وتاريخ الحزبين الأكبرين في هذا شاهد وعريق.
لعلّ العرب والمسلمين الوحيدين الذين ينظرون الى انتخابات أمريكا بتوجّس وارتباك، هم الذين يعيشون في الولايات المتحدة، وتعدادهم 3.3 مليون مسلم منهم زهاء المليون مسجّلون للمشاركة في الاقتراع. ولقد أكّد أستاذ القانون الدولي بجامعة جورج واشنطن نبيل ميخائيل خلال تصريح لجريدة العرب أن «اختيار أي مرشح من قبل العرب الأمريكيين سيكون منصبّا على دافع رئيسي هو الخوف من الآخر» مضيفا ان «انتخاب هيلاري كلينتون لن يكون حبّا فيها وإنما مجرّد خوف من انتقادات ترامب» علما وأن ترامب قد أفصح بوضوح خلال حملته الانتخابية عن رغبة في فرض حظر تامّ على دخول المهاجرين المسلمين الى الولايات المتحدة... وعلى الرغم من أنّ ذلك يرجّح نظريّا تصويتا مكثفا لصالح هيلاري كلينتون، فإن جزءا من الناخبين المسلمين مسكونون أيضا بالخوف من المرشحة الديمقراطية نتيجة «سوابقها»  غير المحمودة في اثارة توت00رات شرق أوسطية وشمال إفريقية كبرى خلال اضطلاعها بمهمّة وزارة الخارجية الأمريكية (خاصة في الملفّين الليّبي والمصري)...
الخوف من الآخر، يظل هو نفسه بين المسلم المقيم، وغير المقيم، فهو الذي يدفع المقيم للإدلاء بصوته، ويدفع غير المقيم للاهتمام بالثوابت السياسية الخارجية قبل الاهتمام بالمتغيرات الانتخابية...
وتبدو القناعة لدى التوانسة والعرب راسخة بأن الآليات تتغير وبأن السياسات ثابتة، ومنها قيام معادلة شرق أوسطية قائمة على جذع اسرائيلي ثابت، وأدوات خليجية ممتثلة، وأجندات متحركة حيال تركيا وإيران تتأقلم حسب متغيرات ميزان القوّة، مع ابتعاد كامل عن التدخل العسكري المباشر تنفيذا للمطالب الضاغطة من الرأي العام الأمريكي بعدم التورّط في «المستنقعات الخارجية»، مع الالتزام دائما بالتواجد القويّ ضمن التدخلات اللوجستية والاستشارية والتدريبية... وهذه مسائل لا يختلف فيها الديمقراطيون مع الجمهوريين، رغم أن الجمهوريين أبانوا ميلا أكثر للتدخل العنيف على حساب الديبلوماسيّة في مراحل مختلفة آخرها حرب العراق، لكنّ موازين القوى الحالية بعد الفشل في ترويض سوريا تدفعهم أكثر الى الحذر، وعدم الانزلاق الى حرب خاسرة. ومن الأكيد أنهم قرؤوا جيّدا المستجد اللبناني على ايقاع وصول عون الى الرئاسة، وفهموا أن لبنان (أهم حقل اختبار للتوازنات الشرق اوسطية) قد لخّص المعادلة الجديدة، بالتأكيد على تقدّم ميداني ملموس لحلف موسكو -طهران- دمشق - بما يدعو البيت الأبيض أيّا كان رئيسه الى التسوية بدل التصعيد...
التوانسة الذين بقيت علاقاتهم مع الولايات المتحدة محافظة على نمطيتها المعهودة، بعيدة عن مؤثرات التوتر، والمصريّون الذين أجبروا أمريكا على اعادة قراءة منتوج التحالف مع الإخوان، واليمنيون الذين يشمّون روائح البيت الأبيض في حربهم اللّعينة، كلّ هؤلاء لا يسألون اليوم من سيفوز بالانتخابات الأمريكية، بل يسألون هل ستتغير السياسات الأمريكية؟ واذا فهم الجميع اللعبة السياسية القائلة بأن التغييرت الكبرى في مواقف الدولة ترتبط بميزان القوّة، فإنه لا مجال للحديث عن تغيير ارادي لسياسة عرف عنها الاستخفاف بالمصالح العربية، بل يمكن الحديث عن تغيير اضطراري للسياسات الأمريكية على وقع المستجدّ السوري الذي لم يتمكن فقط من ايقاف أجندة «الربيع العربي»، بل تمكّن أيضا من استحضار الورقة الرّادعة من خلال تقوية دور روسيا وايران في المنطقة، هذا اضافة الى أنه فضح الأساس المهزوز لأجندة «الفوضى الخلاقة» والذي أغرق أمريكا فيما يشبه «الفضائح» في حرب ليبيا مثلا. ودون نسيان الدرس المصرّي لشهر جويلية 2013، والذي فضح عوزا ديبلوماسيا أمريكيا رهيبا في التعامل مع الاخوان المسلمين وتمكينهم، فإنه يمكن القول أن انتخابات «الثلاثاء الكبير» سواء أثثت بالمرشحة الديمقراطية المتورّطة في محارق الشرق الأوسط، أو بالمرشح الجمهوريّ المغرق في «الاسلاموفوبيا»، فإنها ستنتج نفس السياسات الخارجية، ونفس الميل الى مزيد إلحاق المنطقة العربيّة بالكيانات المحطمة التي يهدر فيها مفهوم الدولة السيادية، ولا تبلغ من المكارم الا اتباع التعليمات وتصدير الخامات...
«الخوف من الآخر» من أوّل المقيم بأمريكا، الى آخر ملاحظ من خارجها يدفع العرب اليوم الى الانتظار ليس إلا، إذ لا يغريهم أيّ بورتريه رئاسي أمريكي بالحماس والمتابعة المشوّقة...
لقد أخذوا الدرس من احتفالهم الطويل بمعزوفة «باراك حسين أوباما» ذي الجذور الاسلاميّة، لكنهم ذاقوا في عهده، وقد يذوقون في عهد من سأتي بعده، أكبر فصل من المهانة الدولية باسم «ربيع الحريات»..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال