إعلان أعلي المقال

رجل أمن يردي عشيقته قتيلة بطلقات نارية, ورئيس مركز وصديقه لقيا حتفهما ووقع التنكيل بجثتيهما من قبل مجهولين, وزوج يطعن زوجته الكفيفة ويذبحها من الوريد إلى الوريد... مشاهد مرعبة تجعلنا نتساءل عن سبب توحش التونسي؟
جرائم القتل موجودة في جل المجتمعات, لكن بشاعتها والتنكيل بالجثث من الأسباب التي تجعلنا نتساءل عن الدوافع التي تجعل الإنسان يخرج عن طور انسانيته ويدخل عالم التوحش والحيوانية حيث لا ضمير ولا خوف من العقاب ولا رادع ديني ولا خوف من الله.
« الشروق» بحثت عن أسباب ارتفاع معدلات الجريمة البشعة وعن الدوافع الاجتماعية والنفسية وعن مدى ترابط ما يحدث اليوم من ارتفاع في نسب الجريمة وقيام ما يسمى بالثورة منذ سنة 2011.
الأستاذ طارق بالحاج محمد أمدنا بتحليل معمق وشامل لارتفاع نسب الجريمة في تونس والدوافع التي تقف وراء تفشيها في مجتمعنا ودور مختلف الأطراف المجتمعية في الحد من انتشار هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة.
الجرائم البشعة في تونس

ويقول الأستاذ طارق بالحاج محمد في هذا الصدد: تمثل فترة ما بعد الثورات والمراحل الانتقالية عادة بيئة خصبة لظهور الاضطرابات السلوكية والنفسية وكأنها عبارة عن أعراض جانبية تخلفها كل ثورة وهذا أمر مفهوم من وجهة نظر علمية لسببين رئيسيين على الأقل: أولا أن كل ثورة اجتماعية لم تسبقها أو تواكبها ثورة ثقافية تتحول من فرصة للتحرر الاجتماعي إلى فرصة لانفلات الغرائز في أكثر جوانبها بدائية وعدوانية، وثانيا أن الثورات تهدم عادة البنى والمؤسسات الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة دون أن تعوضها بسرعة ببنى أخرى توفر الإجابات اللازمة للإنسان. مثلما رأينا التونسي في أبهى تجلياته رأيناه أيضا في أكثر صوره ضعفا وقبحا.
لاحت لنا بقوة ملامح التونسي المستفز والمضطرب والقلق الذي يرتفع عنده منسوب العنف والعدوانية مما أعطانا مشهدا للانفلات الاجتماعي منقطع النظير، انطلاقا من الفضاء العام وصولا إلى الحياة العائلية.
وبالتالي تتميز فترات التحول والانتقال في السياقات الثورية إلى نوع من المعاناة والاضطرابات السلوكية والنفسية وهذا ما يفسر ارتفاع منسوب العنف والعدوانية لدى التونسي وارتفاع نسب زيارة عيادات الطب النفسي وطغيان الانفلات على المشهد الاجتماعي انطلاقا من الفضاء العام وصولا إلى الحياة العائلية عدوانية تتراوح بين الاعتداءات الجسدية والمادية المختلفة إلى أن تصل إلى أكثر أشكال العنف بشاعة من قتل وتمثيل بالجثث...
سلوك التونسي اليوم يغلب عليه الطابع الانفعالي والعدواني، وفيه الكثير من الاندفاع والاستعراض والتكلف وهو ناتج عن الخوف من الحاضر والمستقبل وغياب آفاق الحل والخلاص والرغبة في تفريغ شحنة كبيرة من الكبت والقهر المزمن ورغبة جماعية لإثبات الذات بموجب وبدون موجب.
هذا السياق العدواني وهذه البيئة العدائية لم تقتصر على الفضاء العام بل وصلت حتى الفضاء الخاص ومست علاقة أفراد الأسرة الواحدة وخاصة علاقة الأولياء (نساء ورجالا) بأبنائهم. فحجم الضغط النفسي والاجتماعي المسلط على أفراد المجتمع من الشباب والكهول اخترق آخر وأهم حصن للتنشئة الاجتماعية السليمة والمتوازنة وهو مؤسسة العائلة وأكبر ضحاياه هم الأطفال. هي عدوانية في سياق سياسي واجتماعي عدواني ويأخذ أشكالا ومضامين متعددة تعدد السياقات. تزداد الأمور تعقيدا مع تراجع سلطة الدولة وقدرتها على إنفاذ القانون مما يعطي رسالة للمجتمع بضعف الدولة ويفتح باب التجاوزات.
جيل برمته يتكون اليوم من أطفال وشباب يجد نفسه ضحية ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية هشة وخارج منظومات الدراسة والحماية والاقتصاد،جيل يواجه وحيدا الحياة بصعوباتها وتعقيداتها ويواجه المجتمع بكل قسوته وأمراضه،فليس من الغريب إذن أن يجد نفسه إما ضحية احدى وضعيات التهديد أو أحد المتسببين فيها. ظواهر لا تكاد تخلو منها أي جهة من جهات البلاد، ظواهر يلفها الصمت والإنكار والنسيان واللامبالاة وكأنها تحدث في كوكب آخر في حين أنها تحدث أمامنا وتهدد جيلا برمته وهو جيل الأطفال والشباب، انها آفة الادمان وخاصة على المخدرات ذات المفعول القوي والمدمر. فنوعية المخدرات المستعملة اليوم، والغاية من استهلاكها حولها من مجرد آفة أو ظاهرة إلى مرض اجتماعي وإلى جزء من ثقافة جديدة ما فتئت تتوسع وتنتشر وهي ثقافة الموت والقتل، قتل الجسد وقتل الوعي وقتل النفس وقتل الآخر. فالمتأمل لنوعية المواد المخدرة المستهلكة اليوم والتي دخلت مؤخرا لائحة الاستهلاك وخاصة من حيث حدتها وقوتها يستنتج بدون مجهود كبير أن الغاية من وراءها يتعدى مجرد البحث عن النشوة والمتعة و"الشيخة" بل الغياب الكلي عن الوعي والحياة.مخدرات مرتبطة بشبكات جريمة من داخل الحدود وخارجها تخلف آثارا أشبه بالموت السريري أو الدخول في حالات حادة من الغيبوبة وفقدان الصلة بالحياة إلى درجة يتحول فيها المستهلك من جسد إلى جثة ومن انسان إلى وحش كاسر يمكن أن يرتكب أبشع الجرائم و اشنعها. بهذا المنطق تحولت المواد المخدرة اليوم إلى خطر حقيقي يهدد الأمن الصحي والنفسي لمستهلكيها والأمن الاجتماعي لمجتمع برمته وربما هذا ما يفسر ارتفاع حجم الجرائم كيفا وكما واتخاذها لمنحى استعراضي يصل إلى حد التمثيل بالجثث.
آثار الجرائم على الأطفال

تمثل متابعة الجرائم جريمة حقيقية وبشعة واغتصاب لعالم الطفولة وحرمتهم ومصادرة لحقهم في العيش في مناخ سليم يساعدهم على النمو النفسي والبدني الطبيعي والعادي.نلمس ذلك عندما نرصد آثاره على توازنهم النفسي،فقد أثبتت الملاحظات العلمية والدراسات الاجتماعية والنفسية (في تونس وخارجها) أن مشاهد الجرائم يدمر البنية النفسية الهشة للطفولة ويغير حتى إيقاع من حياتهم.وتتراوح ردود فعل الأطفال تجاه ذلك بين الخوف و الانسحاب والعزلة والانطواء والاكتئاب والتوتر والعصبية....كل حسب تركيبته وقدرته على التحمل ونوعية محيطه الأسري والاجتماعي.كما يحدث أن تتغير سلوكاتهم وعاداتهم الغذائية والحياتية لتتراوح بين فقدان الشهية وقلة النوم والكوابيس أو ظهور أعراض العدوان والعنف والتمرد كتعبير عن عدم السواء والتوازن أو كنوع من المحاكاة لصور وثقافة الفعل الإجرامي.
كيف نحمي أطفالنا؟
تعتبر مساهمة الكهول من أولياء ومربين عملية أساسية في حماية الأطفال من الآثار النفسية للجريمة أو على الأقل التخفيف منها.ويمكن أن تأخذ هذه المساهمة شكلين أساسيين.أولا التحكم في السلوك وردود الفعل ومشاعر الخوف والفزع والتأثر تجاه الأحداث والأخبار العنيفة والاجرامية لأنها حين تحدث لدى الكهول يتبناها الأطفال لأنهم يرون بعيون الكهول وليس بعيونهم لأن مداركهم ومعارفهم وخبراتهم لا تسمح لهم باستيعاب هذه الصدمات وهذه الحقائق،وفي ذلك خطر حقيقي عليهم.أما الاستراتيجية الثانية فتتمثل في الحوار معهم ومناقشتهم بما يتماشى مع سنهم وقدراتهم بما يجعلهم يدركون الحقائق من جهة ويخلصون من مشاعر الخوف والرعب والتوتر.
المسؤولية المجتمعية

تتراوح هذه المسؤولية المجتمعية بين الدولة والإعلام والمجتمع المدني والأسرة.على الدولة سن القوانين اللازمة لتنظيم القطاعات التابعة لها بحيث تكون حامية للطفولة عبر تجنيبها ثقافة وصدمة الإجرام وعبر توفير الخدمات النفسية والاجتماعية اللازمة للإحاطة بالطفولة في هذه الحالات بحيث تصبح هذه الخدمات قارة ومتوفرة لمستحقيها.كما يلعب الاعلام دورا أساسيا سواء باحترام اخلاقيات المهنة التي تخص الطفولة بإجراءات وشعارات وإعلانات معينة متعارف عليها عالميا،أو عبر تقديم المعارف والثقافة السيكولوجية اللازمة التي تنمي مهارات التعامل مع الأطفال في مثل هذه الوضعيات والتي تقدم إلى كل المشرفين على الفضاءات التي يؤمها الطفل ينتفع بها الأولياء والمنشطون والمربون...كما أن للمجتمع المدني دورا مهما في هذه العملية يتراوح بين رقابة الدولة والإعلام وتحفيزهم على أداء دورهم وكذلك تأطير الأطفال ورعايتهم وتربيتهم على ثقافة المواطنة والمشاركة وتحمل المسؤولية بما يعزز حصانتهم النفسية.

المصدر : الشروق - ناجية المالكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال